banarlogo

الإجرام بصيغته القانونية 3 في قرارات البعث بتفكيك أواصر الدم

د. رائد عبيس
استكمالا لمقالنا السابق الذي ذكرنا فيه الأصول المرجعية لانتهاكات حزب البعث للقوانين الدولية والدستورية، والطبيعة الإجرامية لهذا النظام الذي صيغت بقوانين عامة، أو قرارات خاصة، وتعليمات، وتوجيهات مباشرة، وغير مباشرة عن رأس النظام صدام حسين، أو أحد أركان حكومته.
 تطرف هذا النظام في سياساته العامة في إدارة البلد، إذ تجاوزت كل معقول، وخرقت كل الاعتبارات الدينية، والأخلاقية البشرية، وأصبح هذا من المسلم به عند كل متابع، ومتضرر، وشاهد على مجريات تلك الجرائم التي تنوعت بشكل كبير.
إن الصدمة الحقيقية التي تلقاها العراقيون، ومن عاش على أرض العراق، هي بتشريع قوانين من قبل مجلس قيادة الثورة، وبأوامر من صدام حسين، مثل: قرار (666) في عام 1980. https://iraqld.esjcservices.iq/LoadLawBook.aspx?SC=300920155284380 و قرار (474) في عام 1981، https://wiki.dorar-aliraq.net/iraqilaws/?s=474
تهدد فعلياً التعايش الذي ألفه العراقيون بين أعراقهم المتنوعة، وقضت هذه القوانين إلى ترحيل اغلب العراقيين من أصول أجنبية، وكان في العراق عراقيون من أصول إيرانية، وأكراد فيليين، وتركمان, ومن باكستان والهند وغيرهم من المقيمين والمتزوجين والمتصاهرين مع عراقيين .
فكان العراقيون والمقيمون من هذه الأصول متعايشين، وبينهم روابط الدم، التي نتج عنها أُسراً وأطفالاً، وصلات اجتماعية تؤكد تلك الروابط .
وهنا ظهرت المشكلة الحقيقية لقرارات مجلس قيادة الثورة المنحل، وظهر التطرف، والاستبداد بكل أشكاله في إصدار مثل هذه القرارات، وأبعادها الإجرائية التي كانت بمنتهى القسوة، والعنف ضد الجميع .
وهنا أصبحت سياسة البعث المتطرفة علنية الدوافع والغايات تجاه من لديه ارتباط شكلي أو حقيقي مع الجمهورية الإسلامية في إيران.
وما أن بدأت إجراءات الترحيل، والتسفير، والتهجير القسري لهم بقوة السلاح، والتعسف في الإجراءات، والتعنت الذي سبقه الاعتقال، والسجن، والحجز في مراكز التوقيف، بل حتى في المؤسسات العامة وقعت الجريمة الفعلية لتمزيق كل روابط الدم بين هذه المكونات الإجتماعية. فكان مصير مئات الآلاف من العوائل في مشهد إنساني مؤلم، وهي تفارق أحبتها بين الموت، والحبس، والرحيل، والإبعاد القسري لهم.
وهذه الكارثة كما ذكرنا في بداية المقال تعد انتهاكاً صارخاً لكل القوانين الدولية الحقوقية التي شرعتها الأمم المتحدة التي ضمنت بها حق العيش، وتكوين الأسرة، وحق الاختيار .
جاءت ايديولوجيا البعث لتشكل انتهاكاً لا مثيل له على هذا المستوى الصادم لكل ضمير بشري، وهو يطالع هذه المأساة في روايات الشهود، والوثائق، وقصص الألم عنها.
نذكر هنا أمثلة من سياسة تفكيك أواصر الدم، بمقولة المجرم صدام حسين في خطاب له بعد عمليات الترحيل في عام 1980:
(لمنع اختلاط دم التبعية بالدم “العراقي”، لم يكن الترحيل كافيا، فكان لا بد من فصل العائلات الموجودة) تخيل أيها القارئ الكريم، هكذا خطاب غير إنساني، يصدر من رئيس دولة! فأي ضمير يملك؟!.
الأمثلة:
  • إذا كانت الزوجة عراقية وزوجها من التبعية الإيرانية، فيُتاح لها الاختيار بين الترحيل مع زوجها، أو البقاء في البلاد. وهنا وقعت حيرة العوائل المترابطة عبر أواصر الرحمة والمودة والمعاشرة!.
  • شجع النظام النساء على طلب الطلاق، والبقاء في البلاد من خلال عرضه عليهن مبلغ 10000 دينار عراقي لمن تطلق زوجها، وهذا معناه أنه قدم العروض والمغريات؛ لأجل إيقاع الانفصال بين العراقية وزوجها من التبعية، وربما عراقي الأصل، ولكن ورطة التسجيل على التبعية تلقوا عند صعود صدام للحكم. وبالتأكيد هناك من يقع ضحية هذه المغريات، ويفرط بالزوج والعائلة والأولاد منهن.
  • لم يسمح للنساء اللواتي فضلن البقاء بالعمل في الوظائف الحكومية، كما هو مذكور في مرسوم 150)) بتاريخ 28/1/ 1980 (منع أي امرأة عراقية متزوجة من أجنبي من الخدمة في الدوائر الحكومية، وشبه الحكومية، ومؤسسات القطاع الاجتماعي). وهذا الامتحان الثاني الذي يضاف إلى الامتحان الأول في نقطة رقم (1) في أعلاه! الذي تعرضت له العوائل. وهنا لنقيم ضمير البعث الصدامي في تعامله مع شعبه، وأي تطرف سلوكي حمله تجاه الناس، حتى برزان التكريتي الأخ غير الشقيق لصدام حسين، على الرغم من إجرامه، ومشاركته له بالإجرام، إلا أنه حذره من المبالغة في سلوكه المتطرف، والدموية، والعدائية، ونظرية المؤامرة التي يحملها تجاه الآخرين ! (مذكرات برزان التكريتي،ج1, ص85).
  • أما إذا كانت الزوجة تبعية إيرانية وزوجها عراقي، فيجوز لها البقاء إلا أن النظام شجع الرجال على تطليق زوجاتهم بعرض (4000) دينار إذا كان جندياً، أو (2500) دينار إذا كان مدنياً كما نص على ذلك قرار مجلس قيادة الثورة رقم (474) تاريخ 15/4/1981.
إليك أيها القاري الكريم، كم هو حجم الإصرار لتدمير كل روابط الدم من خلال سياسة سد الطرق بوجه كل من يحاول، أو يتحايل لأجل البقاء، حتى يحافظ على أسرته، ويبقى بين أهله، وربما بعضهم نجح بالحصول على استثناء من سلطة البعث، أو تدبير الأمر برشوة دفعها للمرتشين من عناصر البعث؛ لتغيير واقع حاله، وهذه شهادة حدثني بها أحد الأصدقاء عن ما حدث مع أهله.
وكان قرار (474) ليس فقط لتعطيل الزيجات الموجودة مسبقًا، ولكن أيضًا لمحاولة منع نساء التبعية من البقاء في العراق أصلاً، إذ حاولت بعض العوائل منع ترحيل بناتها عن طريق تزويجهن من عراقيين شكلياً.
  • أما التوجيه رقم 2464/12/31 بتاريخ 22/4/ 1981 وقعه أمين سر مجلس قيادة الثورة طارق حمد العبد الله الذي يخص مصير المطلقات، فهو يمثل مهنية عالية في الإجرام! ومنهجية دقيقة في التعسف، وانعدام الإنسانية، ومواصلة إلحاق الأذى بحق كل تبعي، ومن يربطه معه رابطة دم!.
نص التوجيه: في حالة الطلاق: (على وزارة العدل إبلاغ وزارة الداخلية لطرد المطلقة خارج الدولة)، ولثني هؤلاء الرجال، الذين ربما طلقوا زوجاتهم لأسباب أخرى غير السبب الوحيد لكونهم تبعية، عن الزواج من نساء تبعية أخريات،…. تكملة التوجيه في (6) أدناه.
  • (لا يجوز لمن يستفيد من المرسوم المذكور (474) أن يتزوج مرة أخرى بإيرانية، وإلا أعيد المبلغ). وهنا نلفت نظر القارئ الكريم أن نص قرار (474) – المذكور مصدره في الرابط أعلاه- كان يقدم أموالاً لأي رجل يطلق امرأته من التبعية.
وعليك أن تتخيل أي ضمير متكلس هذا الذي يشجع على انعدام الضمير، وضعف النفوس، وتجريد الناس من أخلاقهم، وشهامتهم، وغيرتهم على أعراضهم!.
  • فصل الشباب عن أسرهم وعوائلهم، وأخذهم إما بتجنيدهم، وألحاقهم بالجبهة، أو إيداعهم السجون، وإعدام كثير منهم.
كانت عمليات الترحيل لكل من الإيرانيين والتبعية الإيرانية، والكرد الفيليين التي فككت روابط الدم بينهم وبين العراقيين ومثلت أبشع أساليب القسوة، والتعذيب البدني والنفسي، وانعدام الإنسانية؛ لأنها فعلا جريمة بحق الإنسانية. (للفائدة يُنظر: هوشانغ دارا، إعادة دمج الأكراد الفيليين في المجتمع العراقي).
أما موقف الحكومة الإيرانية، وتعاملها مع من جرى تسفيرهم تحت عنوان تبعيتهم لها، فلم تعترف بكثير منهم كإيرانيين، لعدم وجود ما يثبت ذلك في سجلاتها كما تدعي، وقامت بإيداعهم في معسكرات أشرفت على إدارتها منظمة الهجرة الدولية، وقد استمروا على هذا الوضع، حتى تاريخ سقوط النظام في العام ٢٠٠٣م، إذ أعيد كثير منهم إلى العراق، وأُعيدت لهم جنسيتهم، وعوّضوا عن الأملاك المصادرة المنقولة، وغير المنقولة.
وكانت أساليب الترحيل على النحو الآتي:
  • ترحيل أعداد كبيرة من الرجال التبعية بطريقة تعسفية ومهينة، ولا سيما من هُم خارج عمر الخدمة العسكرية، من خلال رميهم، ومن دون سابق إنذار على الحدود العراقية الإيرانية من غير عوائلهم على أمل يحلقونهم بهم، مثلما حدث مع التجار.
  • ترحيل أعداد كبيرة جداً من العوائل بأطفالها، ونسائها، وشيوخها بغض النظر عن الظروف الشخصية لكل منهم، سواء أكانوا مرضى، أو معاقين، أو قاصرين، أو علاقاتهم الإجتماعية التي تربطهم بغيرهم في السكن والمصاهرة وغيرها.
  • فصل عوائل المطلوبين للأمن، ومن كانوا بالخدمة العسكرية، ورميهم على الحدود من دون آبائهم.
  • فصل أعداد كبيرة من الأبناء الأطفال عن ذويهم؛ ليصبحوا وديعة الجيران، والأقارب، والمعارف.
  • إخفاء أعداد كبيرة من المشمولين بالترحيل، لغرض إخضاعهم للتجارب البايولوجية والكيمياوية، وتغييبهم عن ذويهم، ولا يعرف مصير أغلبهم إلى اليوم.
  • زيادة حالات الطلاق، والعنوسة، والتفكك الأسري، وضياع مصير كثير من الأبناء، وكثير منهم لم يعد يعرف ذويه، ولا يمكنه التعرف عليهم حين ملاقاتهم، فضلاً عن قاربهم.
فمثل هذه القرارات اللاإنسانية أحدثت آثارها المأساوية، وصدعاً اجتماعياً، ومخلفات ما زال العراق يعاني منها، وفقد بها مئات الآلاف من أبنائه بين الضياع، والموت، والمهجر، وفقدان المصير والهوية، وهم يتأرجحون بين قرارات العودة واللاعودة على الرغم من عودة بعضهم.
للحديث تتمة …